الأربعاء، 20 أغسطس 2025

قصص سعد مكاوي

القسم الثاني: المناخ الأدبي في مصر الستينيات: أزمة في الشكل والرؤية
يطرح هذا القسم أن الأجواء الثقافية والسياسية في أوائل الستينيات - وهي حقبة اتسمت بالتحديث الذي قادته الدولة، والمركزية السياسية، والقلق الاجتماعي الكامن - جعلت من القصة القصيرة شكلاً أدبياً فعالاً وملائماً بشكل خاص.
2.1 الفن في ظل الدولة: المشروع الناصري وتأثيره
كانت فترة الستينيات تمثل ذروة مشروع بناء الدولة الذي قاده جمال عبد الناصر. ومسيرة مكاوي المهنية داخل وزارة الثقافة تضعه مباشرة في سياق هذا الفن الذي ترعاه الدولة. إن التفسير النقدي لرواية "السائرون نياماً" كرمز لـ "الضباط الأحرار" و"صراعاتهم وعلاقتهم بالشعب" يوضح أن الأدب كان ساحة رئيسية للتفاوض مع الواقع السياسي ونقده، حتى لو تم ذلك بشكل غير مباشر. 
لقد خدم "التراث" وظيفة مزدوجة للكتاب من أمثال مكاوي. فمن ناحية، كان توظيف التاريخ يتماشى مع المشروع الثقافي للدولة الذي يحتفي بالتاريخ المصري. ومن ناحية أخرى، وفر هذا التوظيف مسافة رمزية "آمنة" يمكن من خلالها نقد الحاضر. فمن خلال الكتابة عن المماليك، استطاع مكاوي استكشاف موضوعات الاستبداد، والسخط الشعبي، وطبيعة السلطة المفسدة، دون مهاجمة النظام القائم بشكل مباشر. وهذا يشير إلى أن اختيار الشكل والموضوع كان عملاً سياسياً عميقاً. ورغم أننا لا نعرف الإطار المحدد لقصص "الرقص على العشب الأخضر"، فإن هذا التحليل يرجح أنها تعمل بدقة رمزية مماثلة، مستخدمة حكايات شخصية أو تاريخية مصغرة للتعليق على قضايا معاصرة. 
2.2 صعود القصة القصيرة: شكل لعصر مجزأ
كان سعد مكاوي كاتباً غزير الإنتاج في مجال القصة القصيرة، حيث أصدر 14 مجموعة قصصية. وقد أشار الناقد سيد الوكيل إلى أن القصة القصيرة المصرية أصبحت "فضاءً تحررياً" ابتداءً من الستينيات. هذا الصعود لم يكن من قبيل الصدفة. 
فالسرد الكبير الشامل للرواية التقليدية غالباً ما يوحي بعالم متماسك ومفهوم ومسار تاريخي واضح. أما المناخ السياسي في مصر الستينيات، فقد كان يتسم بتفاؤل رسمي ("المشروع")، ولكنه يخفي تحته حالة من عدم اليقين والسيطرة. وهنا، تبرز القصة القصيرة، بتركيزها على لحظة واحدة، أو شذرة من حياة، أو موقف غير محسوم، باعتبارها الشكل الأنسب فنياً لالتقاط هذا الإحساس بالتجزئة والغموض. إنها تسمح بالإيحاء بدلاً من التصريح، ويمكن أن تنتهي بنبرة من القلق، تاركة النقد السياسي أو الاجتماعي ضمنياً للقارئ ليفك شفرته. وهذا يجعلها شكلاً أكثر قدرة على التخفي والمناورة من الرواية في بيئة سياسية خاضعة للرقابة. وبالتالي، فإن إصرار مكاوي على كتابة القصة القصيرة في عام 1962 لم يكن مجرد تفضيل شخصي، بل كان خياراً فنياً استراتيجياً. ومن المرجح أن "الرقص على العشب الأخضر" هي مجموعة من هذه اللحظات المجزأة، كل منها عدسة مصقولة بعناية تسلط الضوء على مجتمع يتصارع مع تغييرات هائلة، حيث تتصادم الروايات الرسمية مع الحقائق الفردية.
القسم الثالث: تشريح مجموعة "الرقص على العشب الأخضر"
سيقوم هذا القسم المحوري بإجراء "تحليل ترميمي" للمجموعة، مستخدماً الأدلة المحدودة المتاحة والإطار السياقي الذي تم تأسيسه في الأقسام السابقة.
3.1 النشر والموقع: عمل انتقالي في عام 1962
نُشرت المجموعة في عام 1962 ، مما يضعها في قلب مرحلة النضج الفني لمكاوي، بعد مجموعاته المبكرة مثل "نساء من خزف" (1948) و"الماء العكر" (1956)، وقبيل صدور روايته الأشهر "السائرون نياماً" (1963/1965) مباشرة. وقد أشار إليها أحد النقاد في مقابلة متلفزة بأنها من مجموعاته "الجميلة" اللاحقة، مما يوحي بمستوى عالٍ من الحرفية الفنية. 
إن المسار الإبداعي لمكاوي يظهر تطوراً واضحاً من الواقعية الاجتماعية في أعماله المبكرة إلى الرمزية التاريخية الكبرى في رواياته. وتقع مجموعة 1962 عند نقطة التحول الدقيقة في هذا المسار. لذلك، من المنطقي أن نستنتج أن قصص "الرقص على العشب الأخضر" تمثل جسراً حيوياً. فهي على الأرجح تحتفظ بالاهتمام الواقعي بالتفاصيل والشخصيات من فترته المبكرة، بينما تجرب في الوقت نفسه الأساليب الرمزية التي ستصل إلى أوجها في "السائرون نياماً". وبهذا المعنى، يمكن القول إن المجموعة هي المفتاح لفهم تطور مكاوي الفني؛ إنها المختبر الذي صيغت فيه تقنيات رائعته الكبرى. 
3.2 إعادة بناء العالم السردي: الشخصية، المكان، والصوت
في غياب النص الكامل لمجموعة "الرقص على العشب الأخضر"، يمكن استنتاج طبيعتها المحتملة من خلال تحليل الأنماط الأسلوبية والموضوعية في قصص مكاوي القصيرة الأخرى. تكشف التسجيلات الصوتية لقصص من مجموعته "مخالب وأنياب" عن أنواع محددة من الشخصيات والتقنيات السردية. نجد فيها بطلات معقدات مثل "وهيبة"، التي تجمع بين الخضوع والصلابة، وتتحمل العنف الجسدي وهي حامل. كما نرى شخصيات ثانوية غريبة الأطوار لا تُنسى، مثل "الشيخة تحفة" وببغائها النذير، التي تعيش في حجرة أشبه بـ "القبر". ويتميز الصوت السردي بالانتباه للتفاصيل الحسية، والمونولوج الداخلي، والحقائق القاسية للفقر والتسلسل الهرمي الاجتماعي. 
إن الشخصيات في النماذج المتاحة ليست شخصيات قوية أو مؤثرة، بل هي في الغالب من النساء أو الفقراء أو غريبي الأطوار. ويتعمق السرد في تجاربهم الداخلية من الألم والخضوع ولحظات التآزر المجتمعي الصغيرة. هذا التركيز المتسق يكشف عن انشغال أساسي لدى مكاوي: منح صوت لمن لا صوت لهم واستكشاف الأثر النفسي للعيش داخل هياكل اجتماعية قمعية. وبناءً على ذلك، من المرجح أن قصص "الرقص على العشب الأخضر" تواصل هذا التقليد. فهي على الأغلب ليست حكايات عن أبطال أو نخب، بل هي بورتريهات حميمة لأناس عاديين يبحرون في عالم من القيود. وقد يكون "الرقص" الذي يحمله العنوان استعارة لأفعالهم الصغيرة من التمرد أو الفرح أو البقاء على قيد الحياة داخل هذا السياق المقيد. 
3.3 تفسير الرقصة: استنتاج الاهتمامات الموضوعية
يحمل العنوان ذاته، "الرقص على العشب الأخضر"، دلالات عميقة. فالرقص على العشب الأخضر بالمعنى الحرفي يوحي بالبراءة الرعوية والحرية والفرح العفوي. لكن عالم مكاوي الأدبي، كما أسلفنا، هو عالم من الواقعية الاجتماعية والقهر وعلم النفس المعقد. وروايته الكبرى تحمل عنوان "السائرون نياماً"، وهي استعارة لشعب غافل عن خضوعه.
إن وضع عنوان يوحي بالحرية المطلقة على قصص من المرجح أنها تتعامل مع القيود يخلق مفارقة قوية. فالرقص هنا ليس حالة دائمة، بل هو لحظة عابرة، وربما يائسة، من الانعتاق في واقع كئيب. إنه هروب مؤقت، وليس تحرراً حقيقياً. وبهذا، يصبح الموضوع المركزي المحتمل للمجموعة هو التوتر بين الرغبة الإنسانية في الحرية (الرقص) والهياكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تقيدها (العالم خارج العشب الأخضر). قد تستكشف كل قصة وجهاً مختلفاً من هذه "الرقصة" - لحظة حب، أو فعل تحدٍ صغير، أو وهم قصير بالسعادة - يظلله دائماً الواقع الأكبر. وهذا يرتبط مباشرة بموضوع "السير نياماً" في عمله التالي، حيث يتم تخدير الجماهير بالملاهي بينما تعمل السلطة في الخفاء.
القسم الرابع: جسر إلى الرائعة: "الرقص على العشب الأخضر" في مسار أعمال مكاوي
يعزز هذا القسم الحجة القائلة بأن مجموعة عام 1962 كانت المقدمة الأساسية لرواية عام 1963، "السائرون نياماً".
4.1 من العرضي إلى الملحمي: تتبع تطور الرمزية
تعد "السائرون نياماً" رواية معقدة متعددة الأجيال، تدور أحداثها في آخر 30 عاماً من حكم المماليك، وتضم مجموعة كبيرة من الشخصيات من جميع الطبقات الاجتماعية. وقد أشاد النقاد بـ "تفاصيلها الدقيقة" وحبكاتها "المتشابكة" التي تخلق عالماً متكاملاً ، وتُقرأ في المقام الأول كرمز سياسي لمصر الحديثة. 
إن رواية بهذا التعقيد تتطلب تخطيطاً هائلاً لموضوعاتها ونماذجها الأولية للشخصيات. وتسمح مجموعة القصص القصيرة للكاتب باستكشاف شخصيات ومواقف وأصوات سردية متعددة دون الالتزام بحبكة ملحمية واحدة. لذلك، من المحتمل جداً أن قصص "الرقص على العشب الأخضر" تعمل كرسومات تخطيطية فردية للوحة الكبرى التي هي الرواية. فالقصة التي تدور حول فلاح متحدٍ قد تكون دراسة للقرويين المتمردين في الرواية؛ والقصة التي تتناول رجل بلاط متلاعب قد تكون مقدمة لأمراء المماليك. وبهذا، يمكن قراءة مجموعة 1962 باعتبارها الأساس الموضوعي والشخصياتي لرواية 1963. فمن خلال استكشاف ديناميكيات السلطة والقهر والمرونة على نطاق صغير ومتقطع في القصص القصيرة، صقل مكاوي الأفكار وأنماط الشخصيات التي سينسجها لاحقاً في السرد الملحمي والمترابط لـ "السائرون نياماً".
4.2 كوكبة من الأفكار: التاريخ، السلطة، والفرد
يستكشف مكاوي باستمرار في جميع أعماله "الصراع بين الخير والشر"، و"يمزج الواقع بصراعاته"، و"يسقط التاريخ على خلفية معاصرة". ويتميز عمله باهتمام عميق بكيفية تأثير القوى التاريخية والسياسية واسعة النطاق على حياة الأفراد. وحتى في رواياته التاريخية، يُلاحظ أن لغته قادرة على التقاط الأصوات الأصيلة لـ "أهل حواري القاهرة" و"الفلاحين". 
وهذا يوضح وجود رؤية فنية موحدة. فسواء كان يكتب قصة واقعية تدور أحداثها في قريته المعاصرة أو رواية تاريخية تدور في عصر المماليك، فإن اهتمامات مكاوي الأساسية تظل ثابتة: طبيعة السلطة، والنضال من أجل العدالة، وصلابة الروح الإنسانية. إن النوع الأدبي والإطار الزمني هما مجرد عدسات مختلفة لفحص نفس الأسئلة الأساسية. فالتحول من قصص 1962 القصيرة إلى رواية 1963 لم يكن تغييراً في الموضوع، بل تغييراً في الحجم والنطاق. وعليه، فإن "الرقص على العشب الأخضر" جزء لا يتجزأ من هذا المشروع الموحد. إنها تمثل تطبيق رؤيته الأساسية على شكل القصة القصيرة في لحظة ذروة قوته الفنية، مما يعزز أهميتها ليس كعمل ثانوي، بل كتعبير رئيسي عن اهتماماته الأدبية الدائمة.
القسم الخامس: الإرث وإعادة التقييم النقدي
يقيم هذا القسم الختامي مكانة المجموعة في التاريخ الأدبي ويدعو إلى تجديد الاهتمام العلمي بها كمفتاح لفهم كل من سعد مكاوي وفترة حاسمة في الأدب المصري.
5.1 في ظل الرواية: الاستقبال النقدي والإهمال
تركز الأبحاث المتاحة بشكل كبير على رواية "السائرون نياماً"، التي يشار إليها باستمرار على أنها "أشهر" أعماله وواحدة من أهم الروايات العربية. وتركز الدراسات النقدية على رواياته بشكل عام ("البناء السردي في روايات سعد مكاوي"، "الرواية في أدب سعد مكاوي") أو على استخدامه للتاريخ فيها. أما إنتاجه القصصي، على الرغم من غزارته وجودته المعترف بها، فيحظى باهتمام أقل تحديداً. 
هذا الإهمال النسبي يمكن تفسيره بما يسمى "تأثير التقنين الأدبي". فالمدونات الأدبية، سواء الشعبية أو الأكاديمية، تميل إلى تفضيل "الرواية العظيمة" كمقياس نهائي لإنجاز الكاتب. وقد أدى النجاح الهائل والأهمية السياسية لرواية "السائرون نياماً" إلى ترسيخ سمعة مكاوي كروائي في المقام الأول. ونتيجة لذلك، تم تهميش أعماله المتقنة في فن القصة القصيرة، والتي قد تكون أكثر دقة وأقل ملحمية بشكل صريح. وتعاني مجموعة "الرقص على العشب الأخضر" من هذا التحيز النقدي. وهذا يعني أن جزءاً كبيراً من هوية مكاوي الفنية ومساهمته قد تم التغاضي عنه، وهذا التقرير بمثابة محاولة تصحيحية، حيث يجادل بأن التقدير الكامل لعبقريته يتطلب إيلاء اهتمام متساوٍ لإتقانه للشكل القصصي.
5.2 مساهمة سعد مكاوي الدائمة في القصة القصيرة العربية
يعترف النقاد بسعد مكاوي كـ "رائد للقص العربي" و"أحد أهم وأبرز كتاب القصة العربية القصيرة في القرن العشرين" ، وهو يحتل "مكانة متميزة" في تاريخ السرد المصري. يخلص هذا التقرير إلى أن مساهمة مكاوي المحددة تكمن في توليفته الفريدة بين العمق النفسي للحداثة الأوروبية والمادة الخام للواقع الاجتماعي المصري؛ واستخدامه المتطور للقصة القصيرة كوسيلة للنقد السياسي والاجتماعي الخفي؛ ودوره في تطوير النمط الرمزي ضمن قيود دولة الحزب الواحد. 
إن مجموعة "الرقص على العشب الأخضر"، التي تقع في ذروة مسيرته المهنية، تقف كمثال رئيسي على هذه المساهمة، وبالتالي فهي نص يتطلب إعادة الاكتشاف والدراسة النقدية الجادة. إنها ليست مجرد مجموعة قصص، بل هي لقطة لفنان كبير في لحظة تحول حاسمة، ونافذة على روح أمة عند مفترق طرق تاريخي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق